فؤاد السعدي يكتب: ملاعب طنجة والرباط.. صروح تبنيها الدولة ويهدمها عبث التنظيم

مرة أخرى، يتأكد أن العبرة ليست في بناء صروح رياضية عملاقة، بل في الطريقة التي تدار بها. صحيح أن المغرب قطع أشواطا مهمة في بناء ملاعب حديثة تضاهي في هندستها وتجهيزاتها كبريات المنشآت الدولية، لكن المشكلة التي تتكرر مع كل مباراة للمنتخب الوطني ليست في جودة الحجر ولا في روعة المعمار، بل في اليد التي تدبر. بمعنى، حين يصل الدور إلى التنظيم، ينهار كل شيء، وتظهر الحقيقة المرة، وهي ملاعب عالمية بتدبير هاو تتكلف به شركات لا تمتلك من الاحتراف إلا الاسم. وبالتالي يبدو جليا أن هناك هوة واسعة بين مستوى البنية التحتية ومستوى التنظيم، خلل يجعل كل مجهودات الدولة عرضة للتشويه والمهانة، كما حدث أمس بطنجة وقبلها بأسابيع بملعب مولاي عبد الله بالرباط.

ما جرى ليلة مباراة المغرب والموزمبيق بملعب طنجة الكبير لم يكن مجرد “سوء تنظيم” فقط، بل كان مهزلة وطنية مكتملة الأركان؛ جماهير تتدفق بلا توجيه، وبوابات بلا علامات، ومسارات بلا منطق. والجهة المكلفة بالتنظيم بدت كما لو أنها تكتشف المكان لأول مرة؛ عاملون مرتبكون، وأسئلة بلا أجوبة، وفوضى تخفي كل ما يمكن أن يدعى “تنظيما”. والنتيجة، منشأة بمليارات السنتيمات، لكن بمنظومة تدبير لا تصلح حتى لحدث محلي بسيط.

ثم جاءت فضيحة “Sky Box” لتفضح ما هو أعمق من مجرد ارتباك، خصوصا عندما تحولت خدمة يتم تسويقها بسعر فلكي يصل إلى 20 ألف درهم إلى مجرد ضيافة منزلية متواضعة. لنصير أمام “خطأ تنظيمي”، ثقيل يضرب صميم صورة المغرب. إذ كيف يمكن لمرفق يسوق على أنه واجهة عالمية أن يدار بهذه الخفة؟ وكيف تستمر شركات بعينها في الحصول على هذه الصفقات رغم فشلها المتكرر؟ وكيف تمر مثل هذه التفاصيل دون محاسبة؟ الجواب واحد، هو أن الشركات التي تمنح شرف تنظيم هذه التظاهرات لا تخضع لأي منطق تنافسي حقيقي، ولا لمعايير الجودة، بل لمسارات ملتبسة يعرفها الجميع.

هذه الأسئلة ليست جديدة، لأن الجمهور نفسه سبق أن طرحها قبل أسابيع بالعاصمة الرباط، حين اضطر الآلاف إلى قطع 50 دقيقة مشيا على الأقدام للوصول إلى ملعب مولاي عبد الله خلال مباراة المنتخب أمام البحرين، في مشهد قاس لا علاقة له باحتضان أحداث كبرى. آباء يحملون أطفالهم، ومسنون يمشون بصعوبة، وسيارات تركن بعيدا بلا حراسة، ثم نصل إلى فوضى جديدة عند أبواب التفتيش، حيث يتم فحص التذكرة الإلكترونية مرات عديدة بلا مبرر. فأي معنى لهندسة ملعب لا يحتوي على محيط مناسب للولوج؟ وأي عقل تدبيري يسمح بتكرار الخطأ نفسه دون مراجعة؟

ما يجري بطنجة والرباط ليس صدفة، وليس هفوة، وليس سوء حظ، بل نمط واضح يتكرر بالآليات نفسها والأخطاء نفسها والفاعلين أنفسهم؛ شركات لا تملك من الاحترافية إلا الاسم، تمنح صفقات حساسة بأساليب لا تعرف الشفافية، وتتعامل مع الجمهور وكأنه آخر همها. والمحصلة، مواطن يهان، وصورة بلد تشوه، وملاعب حديثة تتراجع قيمتها أمام ارتباك تدبيري بسيط كان يمكن تفاديه بقليل من المهنية.

وتبلغ المفارقة ذروتها حين تظهر مئات المقاعد الشاغرة بملعب طنجة، في الوقت الذي عجز فيه كثير من المشجعين عن العثور على تذاكر. فكيف يتوافق ارتفاع الطلب مع مدرجات فارغة؟ سؤال يكشف، مرة أخرى، عن ظلال الزبونية والمحسوبية التي تشوب عملية توزيع التذاكر، في غياب منظومة شفافة ومنصفة تفضي إلى استفادة الجمهور الحقيقي، ذاك الذي يمنح المباريات روحها وحرارتها.

ولذلك، فالمسألة تتجاوز حدود الخلل التقني أو الارتباك الظرفي إلى امتحان صريح لمستوى احترامنا للمواطن قبل احترام المنشأة ذاتها، لأن القيمة الحقيقية ليست في ملعب جميل تلتقط له الصور، بل في تجربة تحترم كرامة الجمهور وتعامله بوصفه طرفا أساسيا في المشهد، لا مجرد رقم يقف في طابور طويل بحثا عن حقه الطبيعي في متابعة منتخبه.

لقد آن الأوان لقطع هذه الحلقة المرهقة من التكرار والارتجال؛ لأن المغرب، وهو يتأهب لاحتضان مواعيد رياضية كبرى، لا يمكنه الاستمرار في تقديم نموذج تنظيمي يبدو مفصولا تماما عن حجم الطموحات والرهانات. على اعتبار أن الإصلاح هنا ليس ترفا، بل ضرورة ملحة تبدأ بوضع معايير شفافة، وتمكين شركات مؤهلة فعليا، وتفعيل آليات المساءلة، ثم قبل كل شيء، إدراك أن قيمة أي مركب رياضي لا تقاس بجمالية الواجهات، بل بمنظومة التدبير التي تحكمه.

وبالتالي، فإن كانت البنية التحتية تعكس صورة بلد يسير بثبات نحو المستقبل، فإن ما نعيشه على مستوى التنظيم يكشف بلدا ما زال يتعثر في أبسط أسس الحكامة. وبين هذا الطموح وذاك الواقع، يبقى الجمهور المغربي هو المتضرر الأول، هذا الجمهور الذي يستحق تجربة في مستوى حبه لمنتخبه، لا المستوى الذي يقدم له اليوم.

إن الاستمرار في هذا النهج، حيث تشيد منشآت بمستوى دولي ثم تسلم إدارتها بمنطق “باك صاحبي”، لم يعد مجرد فشل عابر، بل أصبح مخاطرة تمس مباشرة صورة المغرب وهو يقف على أعتاب تظاهرات رياضية كبرى. وبالتالي فالمسألة لم تعد تتعلق بحدث هنا أو مباراة هناك، بل بمصداقية بلد يسعى إلى ترسيخ مكانته في المشهد الرياضي العالمي.

ولذلك، فإن لحظة التصحيح باتت واجبة، وما على المسؤولين أن يعوه هو أن المغاربة لا يطالبون بالمستحيل ولا يبحثون عن معجزات، بل يطمحون إلى شيء واحد وواضح، وهو تنظيم يرقى إلى مستوى طموح بلد اختار أن يكون في الصفوف الأمامية، لا تنظيم يعيد إنتاج الأخطاء نفسها ويترك صورة الوطن رهينة ارتجال وبدايات لا تليق بما تحقق من إنجازات. إنها دعوة لطي صفحة العبث، وفتح صفحة تدار فيها الرياضة المغربية بما يليق بسمعة المغرب وجمهوره.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *