واقعة العرائش.. مريضة بين مستشفى إقليمي يرسل ومستشفى جامعي يرفض والبروتوكول الغائب

لم تكن واقعة المستشفى الإقليمي للا مريم بالعرائش مجرد حدث عابر أثار غضب أسرة مريضة، بل كانت مرآة عاكسة لخلل أعمق في طرق تدبير الحالات الحرجة داخل المستشفيات الإقليمية، ولارتباك إداري وصحي لم يعد ممكنا تجاهله. فالقصة بدأت حين استقبل المستشفى سيدة في الثالثة والخمسين من العمر تعاني من تسمم حاد وآلام قوية في البطن، وهي حالة تتطلب تشخيصا دقيقا وإمكانيات علاجية متقدمة، وبعد الفحص الأولي، قرر الطاقم الطبي تحويلها إلى المستشفى الجامعي محمد السادس بطنجة باعتباره المؤسسة المرجعية المختصة.
لكن لحظة وصول الأسرة إلى المستشفى الجامعي كانت صادمة، إذ تم إبلاغهم بأن المريضة لا يمكن استقبالها، رغم وثيقة التحويل الطبي ورغم خطورة الوضع الصحي الذي يستدعي، وفق رأي المستشفى المحيل، تدخلا عاجلا، هذا الرفض خلق فراغا خطيرا جعل الأسرة تجد نفسها بين مستشفى إقليمي يقر بعجزه عن مواكبة الحالة، ومستشفى جامعي يرفض استقبالها لعدم احترام مسطرة التحويل المعمول بها.
ومع مرور ساعات الانتظار، اضطرت الأسرة إلى اللجوء إلى مصحة خاصة بطنجة، حيث تم إدخال المريضة مباشرة إلى العناية المركزة نظرا لخطورة وضعها. هنا تتحول الواقعة من خلاف إداري إلى سؤال جوهري حول قدرة المنظومة على حماية حياة المواطنين.
فالتحويل الطبي من مستشفى إقليمي إلى مستشفى جامعي ليس قرارا بسيطا، بل مسار مضبوط ببروتوكول دقيق يفرض إشعار إدارة المستشفى الجامعي، وانتظار ردها، والتأكد من وجود سرير شاغر، وتحديد الفريق الطبي المكلف بمتابعة الحالة. وهو بروتوكول تم وصعه أساسا لمنع الفوضى وضمان التكفل السليم بالمرضى. إلا أن بعض المؤسسات الإقليمية، كما حدث بالعرائش، تتعامل مع هذا الإجراء وكأنه وسيلة لنقل الأزمة إلى مؤسسة أكبر، بدل تحمل مسؤولية التقييم الصحيح للحالة وتدبير الإمكانيات المتاحة بكل مهنية.
إن ما حدث يكشف خللا في مستوى الشفافية داخل المستشفيات الإقليمية، التي كثيرا ما تفتقر إلى الجرأة في مصارحة المرتفقين بحقيقة الإمكانيات المتوفرة، وتختار الحل الأسهل بإحالة المريض إلى المستشفى الجامعي، حتى إن لم تستكمل الشروط الإدارية والسريرية المطلوبة، وهذا السلوك لا يسيء فقط إلى صورة المنظومة الصحية، بل يعرض حياة المرضى للخطر، ويكرس الانطباع السائد لدى المواطنين بأن العلاج الحقيقي يبدأ فقط عندما يصلون إلى المستشفيات الجامعية أو المصحات الخاصة.
في المقابل، يتعرض المستشفى الجامعي لضغط هائل حين يطلب منه استقبال حالات محالة خارج البروتوكول، بما يخلق فوضى في التكفل، ويهدد جودة الخدمات، ويفتح الباب أمام سوء الفهم بين الأسر والإدارة.، وبالتالي فالمؤسسة الجامعية ليست “حل الطوارئ” لكل المستشفيات الإقليمية، بل مفصل استشفائي مرجعي يخضع لبرمجة دقيقة للعمليات والحالات الحرجة.
وهنا تبرز مسؤولية مدير المجموعة الصحية الترابية، الذي يقع على عاتقه ضمان احترام كامل للبروتوكولات، وتأطير إدارات المستشفيات الإقليمية حتى يكون التحويل الطبي قرارا مهنيا مدروسا، وليس وسيلة للهروب من المسؤولية. اليوم أصبح من الضروري القطع مع منطق الاتكالية الذي يجعل المؤسسات المحلية تتخلص من الحالات المعقدة دون تقييم كاف أو دون إشعار مسبق، وهو ما يهز ثقة المواطنين ويضع عبئا غير منطقي على المستشفيات الجامعية.
واقعة العرائش تطرح سؤالا صارخا حول مدى التزام بعض المستشفيات الإقليمية بواجباتها المهنية، وحول قدرة المنظومة على توزيع الأدوار بشكل متوازن يمكن كل مؤسسة من أداء مهامها دون تجاوزات أو تملص، كما تطرح سؤالا آخر لا يقل أهمية وهو من يحمي الحق في العلاج إذا كانت القرارات تتأرجح بين نقص الإمكانيات في مكان، وصرامة البروتوكول في مكان آخر؟
لقد حان الوقت لإعادة تنظيم مسار التحويل الطبي على أسس واضحة وملزمة، ووضع آليات دقيقة للمحاسبة، حتى لا تتحول ثغرات الإدارة إلى أخطار تهدد حياة المرضى، على اعتبار أن المواطن لا يمكن أن يبقى رهينة لمؤسستين؛ واحدة ترسل، وأخرى ترفض، بينما حياته معلقة بينهما.
إن واقعة العرائش ليست استثناء، بل جرس إنذار يفرض قراءة جادة لمسار التكفل داخل المنظومة الصحية، ويدعو إلى إصلاح جذري يجعل من احترام البروتوكول قاعدة، ومن حماية حياة المريض أولوية لا تقبل النقاش.