فؤاد السعدي يكتب: من “تجديد العهد” إلى العبث السياسي.. برلمانية الأحرار تتجاوز الخط الأحمر

لم يكن تصريح البرلمانية في التجمع الحزبي الأخير مجرد زلة لسان عابرة، بل كان عينة مكثفة من خلل أعمق داخل الخطاب السياسي الذي ينتجه حزب التجمع الوطني للأحرار في السنوات الأخيرة. فالقول بأن “الأقاليم جاءت لتجديد العهد مع الرئيس” ليس تعبيرا حزبيا عاديا، ولا يدخل حتى في نطاق المبالغة المقبولة داخل الاجتماعات الداخلية، بل يتجاوز ذلك إلى منطقة رمزية حساسة في الوعي السياسي المغربي، منطقة ترتبط بالملكية والبيعة والشرعية الدستورية، ولا يحق لأي زعيم حزبي مهما بلغ وزنه أن يقترب منها أو يوحي بإعادة إنتاجها في سياق حزبي.
وهنا تكمن المشكلة الحقيقية، لأن البرلمانية لم تفعل سوى أن عبرت بصوت مرتفع عن منطق يشتغل داخل الحزب منذ سنوات، منطق قائم على صناعة صورة “الرئيس القائد” أكثر من بناء مؤسسة حزبية تنتج كفاءات سياسية متوازنة، لأن الحزب الذي يستثمر في تسويق الزعيم أكثر مما يستثمر في تكوين أطره، يجد نفسه أمام قواعد ومنتسبين يخلطون بين الحماسة والعقل، وبين الولاء التنظيمي والولاء السياسي، وبين القيادة الحزبية والشرعية الدستورية. وهذا ما يجعل مثل هذه التصريحات غير مستغربة، بل متوقعة عندما يتصدر المشهد من لا يفرق بين الرموز السيادية ورموز التنظيم.
والدليل أن البرلمانية نفسها ليست في أول انزلاق لغوي أو سياسي. فقد سجلت عدة خرجات مثيرة للجدل، سواء في البرلمان حيث يفترض الوقار والانضباط الخطابي، أو من خلال شبكات التواصل حيث تتحول الهوية البرلمانية إلى وسيلة استعراض أكثر مما هي أداة مساءلة وتشريع. وهذه المسؤولية لا تقع عليها وحدها، بل على الحزب الذي جعل من الأسلوب الصاخب بديلا عن التأطير، ومن التعبئة العاطفية بديلا عن التربية السياسية، ومن التسويق الإعلامي بديلا عن تقاليد العمل المؤسساتي.
إن الحزب الذي يصدر إلى البرلمان وجها يتحدث بفائض حماس وقلة تدقيق، يتحمل كامل المسؤولية عن النتائج، على اعتبار أن المؤسسة التشريعية ليست ساحة للخطابات الحارقة، بل فضاء يقاس فيه وزن السياسي بقدرته على احترام الدستور ورموزه، والتمييز بين مقام الدولة ومقام الحزب، وبالتالي عندما يخرج صوت من داخل الأغلبية الحكومية يتحدث بلغة “تجديد العهد للرئيس”، فالمسألة لا تتعلق بخطأ فردي، بل بخلل بنيوي في التكوين السياسي، وبغياب واضح لمسافة الأمان بين الخطاب الحزبي وخطاب الدولة.
والأخطر أن هذا النوع من الخطاب يمنح الانطباع بأن الحزب يسعى من حيث لا يدري إلى خلق رمزية فوق حزبية لزعيمه، رمزية تتغذى من لغة الولاء والطقوس، لا من حصيلة العمل ومنطق المؤسسات. وهذا منزلق خطير لأن المغرب بنى تجربته السياسية الحديثة على توزيع واضح للأدوار وهي أن الملكية مصدر الشرعية، والأحزاب مصدر التمثيل. وعندما يبدأ حزب ما في خلط هذه المستويات، فإنه يبعث برسالة خاطئة إلى الرأي العام ويضع نفسه في موقع لا يخدمه سياسيا ولا أخلاقيا.
إن الواقعة الأخيرة فرصة للحزب قبل غيره كي يعيد النظر في الآلة التي تنتج خطابه العمومي. فالسياسة ليست صراخا ولا تسويقا للزعيم، بل هي صناعة معنى واحترام مؤسسات وتقاليد. وإذا كان الحزب يريد أن يحافظ على موقعه داخل المشهد السياسي، فعليه أن يتخلى عن “خطاب الحشد غير المنضبط” الذي تحمله مثل هذه الوجوه، وأن يعيد الاعتبار لمدرسة سياسية رصينة لا تخلط بين العهد والولاء الانتخابي، ولا تستعير مفردات تستحضر رموز السيادة في سياق حزبي ضيق.
ولعل الدرس الأكبر هو أن الكلمة في السياسة ليست مجرد هواء، بل مسؤولية. وإذا كان البعض يعتقد أن الحماسة تبرر الانزلاق، فإن منطق الدولة يؤكد أن الخطأ اللفظي عندما يمس الرموز الدستورية يتحول إلى مؤشر على نقص في الوعي السياسي. وهذا ما ينبغي أن يدفع الحزب إلى إعادة هيكلة خطابه وأطره قبل أن يجد نفسه مرة أخرى أمام خرجات غير محسوبة تسيء إليه أكثر مما تخدمه.
إن المغرب في حاجة إلى أحزاب تنتج خطابا عاقلا ومسؤولا، لا إلى أصوات تلهب القاعات بألفاظ كبيرة لا تليق إلا بمقام الوطن، ولا يصح أن تستعمل في مدح أي زعيم حزبي مهما كان موقعه.