حين بصق التويزي وعربد وهبي.. سقطت آخر أوراق التوت عن نخب ترفض مواجهة الفساد

لم تكن “حالة البزق” التي صدمت المغاربة داخل مجلس النواب مجرد سقطة فردية من برلماني بعينه، بل كانت عنوانا رمزيا على ما آلت إليه السياسة من ابتذال وانفلات وعبث، وعلى مستوى التردي الذي بلغته المؤسسة التشريعية في بلد يطلب منه الشباب اليوم خطابا جديدا، لا مشاهد عبثية ومستفزة في بث مباشر.
المشهد كله كان صادما. برلماني يلوح بيديه مخاطبا نواب الأمة في لحظة انفعال لا تليق بالمؤسسة، ووزير للعدل ينساق إلى “مطايفة سياسية” حولت النقاش إلى معركة شخصية، ثم رئيس جلسة يفقد أعصابه ويتصرف وكأنه يدير ضيعة خاصة لا مؤسسة دستورية. لينتهي كل شيء بتدخل وزير الداخلية، الذي بدا وكأنه يسحب ممثل الحكومة من وسط فوضى لم يكن يجب أن تقع أصلا.
هذا ليس شجارا عابرا ولا انفعالا بريئا، بل تعبير صارخ عن أزمة نخبة سياسية فقدت القدرة على ضبط الإيقاع، وغلب عليها الاستعراض بدل النقاش، والصوت المرتفع بدل الحجة، والضجيج بدل الحكمة، والتوتر بدل المسؤولية. لقد شاهد المغاربة، مرة أخرى، مؤسسة تشريعية تتحول إلى سيرك مفتوح، تدار فيه القاعات بالعصبية والانفعال لا بالقانون واحترام المقامات.
الغريب أن هذه الجرأة الزائدة داخل البرلمان أو خارجه اختفت فجأة عندما كان الشارع في حالة غليان. فعندما خرج جيل “زيد”، ذلك الجيل الذي كسر جدار الخوف وأعلن رفضه لمنظومة الريع واللامساواة، صمت معظم رموز الأغلبية صمتا مطبقا، واختفوا من المنصات، وتراجعوا إلى الخلف، وابتلعتهم حالة من الخشية والترقب. لم يكن أحد منهم حينها مستعدا لمواجهة حقيقة أن الشباب لم يعد يثق في الخطاب السياسي، ولا في إنجازات “صفرية” لحكومة “كفاءات” تسوق بالكلام و”لحيس الكابا”.
وحين تدخل الملك، كما يحدث دائما في اللحظات الفاصلة، أعاد التوازن لمسار كان يمكن أن ينفلت لو استمرت الحكومة في التخفي خلف صمتها الارتجالي.
لكن العبث لم يتوقف هنا، لأن الذين غابوا عند لحظات الحقيقة هم أنفسهم من عادوا إلى الواجهة بمواقف مستفزة أو بتصريحات غير مسؤولة. رأينا ذلك مع برلمانية الأحرار حين زجت بمفهوم “تجديد العهد” في لقاء حزبي، في خلط خطير بين الشرعية الملكية والزعامة الحزبية. ورأيناه مع تصريحات أخرى لوزير في الحكومة ينتمي للحزب نفسه، ركزت على تلميع صورة الرئيس والتبجيل فيه بدل مواجهة أسئلة الشارع الحارقة.
في حين أن ملفات أكبر وأعمق ترحل من نقاش إلى آخر دون أن تفتح بجدية، فأين ملف تضارب المصالح بين وزارتي الصحة والتربية الوطنية؟ أين نقاش صفقات الأدوية التي أثارت الكثير من التساؤلات؟ أين النقاش الحقيقي حول الإثراء غير المشروع؟ وحول الريع الذي تحول إلى “اقتصاد خفي” ينتفع منه البعض دون قيمة مضافة للمجتمع؟
والأغرب أن الحكومة، رغم حديثها المتكرر عن “ترشيد النفقات” و”الفعالية”، تتجنب الحديث عن المؤسسات الزائدة التي تصرف عليها الملايير، وعن الامتيازات التي يحصل عليها مسؤولون كبار برواتب توازي أجور رؤساء دول، في وقت دخلت فيه البلاد في دوامة ديون قياسية. فإلى أين نحن سائرون؟
حتى في حقل الإعلام، حين انفجرت فضيحة تسريبات لجنة الأخلاقيات التابعة للجنة المؤقتة لتسيير شؤون قطاع الصحافة والنشر، لم يصدر أي موقف من وزير الاتصال. وكأن الأمر مجرد “سوء فهم” لا يستحق فتح تحقيق أو إصدار توضيح للرأي العام على التدبير التي سيتم اتخاذها في هذه الفضيحة التي عرت واقع قطاع يحتضر، رغم أن التسجيلات كانت تتعلق بجهاز يفترض أنه يخدم حرية الصحافة ونزاهتها.
المشهد السياسي اليوم يعاني من أعراض مرضية واضحة. هناك خوف من النقاش الحقيقي، وتقديس للمواقع، وتضخم سياسي غير مبرر لبعض الوجوه، وانشغال شبه كلي بـ”التسخينات الانتخابية” بدل التفكير في إصلاح بنية الدولة. بينما تستمر البلاد في مواجهة تحديات اقتصادية ضخمة تتطلب رجال دولة حقيقين لا مهرجين سياسيين.
وهنا السؤال الجوهري الذي يطرحه المغاربة وهو كيف يمكن لحكومة عاجزة عن إدارة نقاش داخل البرلمان أن تقود إصلاحات بنيوية؟ كيف لنخبة تهرب من مواجهة الشارع أن تواجه ملفات الريع والفساد الناعم؟ كيف لبرلمان يتحول إلى خشبة فرجة أن ينتج تشريعات عصرية وعادلة؟
ما حدث يوم الجلسة لم يكن حادثا عابرا، بل كان مرآة تعكس مستوى الأزمة السياسية، وتعكس حجم الهوة بين شباب محبط ونخبة ما تزال تتصرف كأن 2025 هي 1995.
أما ما ينتظره المغاربة فليس “بزقا” في يد، ولا صراخا في القبة، ولا شعارات جوفاء، بل مسؤولية، وجرأة، ونقاش حقيقي، وإلا فالصمت القادم من الشارع سيكون أقوى بكثير من كل الصرخات تحت قبة البرلمان.