فؤاد السعدي يكتب: اعتذار مجاهد على ورق رسمي منتهي الصلاحية.. أي عبث هذا؟


لم يكن الجدل الذي انفجر بعد تسريب فيديو لجنة الأخلاقيات مجرد ضجيج عابر، بل كان لحظة كاشفة هزت أحد أهم أجهزة التنظيم الذاتي للصحافة بالمغرب. وفي خضم هذا الغليان، خرج يونس مجاهد، الرئيس المنتهية ولايته على رأس اللجنة المؤقتة، ببيان بدا، في شكله قبل مضمونه، امتدادا للفوضى التي تطبع عمل اللجنة أكثر مما يمثل خطوة مسؤولة نحو تهدئة الوضع. فقد صدر البيان على ورق رسمي للجنة، وبصفة مؤسساتية انتهت صلاحيتها قانونيا، بينما كانت الضرورة الأخلاقية تفرض اعتذارا شخصيا وصريحا يقر بما حمله التسريب من ألفاظ مسيئة. وهكذا، بدلا من أن يطفئ البيان غضب هيئة المحامين، أضاف إليه طبقة جديدة من الالتباس، خصوصا حين صيغ بطريقة تبدو كأنها تحاول إعادة تعريف الأزمة بدل مواجهتها.
ومنذ الفقرة الأولى للبيان، اتضح أن مجاهد اختار التمركز حول مسألة تقنية تتعلق بنشر المقاطع “خارج الإطار القانوني”، في محاولة واضحة للانزياح عن جوهر الأزمة. فالمشكل لم يكن في طريقة النشر، بل في مضمون الكلام الصادر داخل اجتماع لجنة يفترض أنها مكلفة بحماية أخلاقيات المهنة. وقد بدا لافتا أن البيان ركز على “السياق” و”التحقق” و”التأويل”، بينما تجنب الإقرار بأن ما ورد في التسجيل يضرب في العمق صورة اللجنة ويهين محامين كانوا يزاولون مهامهم المهنية بشكل طبيعي، وهو ما جعل كثيرون يرون في هذا الأسلوب محاولة لإعادة صياغة القضية بطريقة تخدم صاحب البيان لا الحقيقة.
وتعزز هذا الانطباع أكثر مع الطريقة التي تم بها تقديم الاعتذار خصوصا عندما جاء بصيغة مزدوجة تجمع بين الصفتيْن الشخصية والمهنية، لكن الروح العامة للبيان بقيت روح السلطة التي تتحدث من موقع مؤسسة لم تعد قائمة. وهو ما جعل الاعتذار يبدو وكأنه صادر عن “رئيس لجنة” أكثر منه عن شخص ارتكب خطأ في اجتماع داخلي. وهذا الخلط بين ما هو شخصي وما هو مؤسساتي خلق انطباعا قويا بأن الأمر يتعلق بمحاولة لإشراك مؤسسة في خطأ ارتكبه أفراد بعينهم، بدل تحمل المسؤولية الفردية التي يفرضها الموقف. وهكذا بدل أن يكون البيان وسيلة لامتصاص الغضب، تحول إلى وثيقة تقدم دليلا إضافيا على طريقة التسيير التي قامت عليها اللجنة منذ تأسيسها.
يتضح الخلل بشكل أكبر عند قراءة الفقرات التي يتحدث فيها البيان عن احترام اللجنة للمحامين ومكانتهم من دون أي اعتراف بالخطأ. فالعبارات التي ظهرت في التسريب لا تمت بصلة لا للاحترام ولا للتقدير، وتناقض تماما الصورة التي حاول البيان تقديمها. ومن الطبيعي أن تدرك هيئة المحامين ذلك، لأنها تلقت اعتذارا صيغ بصفة مؤسساتية لم تعد قائمة، مما جعلها أكثر وعيا بأن الأمر لا يتعلق باعتذار حقيقي، بل بمحاولة التفاف لا تنطلي عليها. على اعتبار أن الاحترام لا يستعاد بالكلمات المنمقة، بل بالاعتراف الواضح بما وقع، وبفتح تحقيق جدي، وبقطع الطريق أمام الممارسات التي كشفتها التسجيلات. لكن البيان لم يقترب من هذا المسار، حيث خلا تماما من أي إشارة إلى محاسبة داخلية أو إجراءات تمنع تكرار ما حدث، وكأنه يسعى إلى إغلاق الملف بتبرير شكلي بدل مواجهة الحقيقة
ومع توسع النقاش نحو الوضع القانوني للجنة المؤقتة، أصبح من المشروع اليوم التساؤل عما إذا كانت الحكومة ما تزال تصرف تعويضات أعضاءها رغم انتهاء ولايتها رسميا، لأن هذا السؤال لم يعد تفصيلا إداريا، بل أصبح جزءا من جوهر الأزمة، على اعتبار أن الاستمرار في استعمال الصفة الرسمية، واستعمال الأوراق الإدارية للجنة، يطرح أكثر من علامة استفهام حول حدود صلاحياتها بعد انتهاء المدة القانونية. وبهذا المعنى، تقع على عاتق الوزير محمد المهدي بنسعيد مسؤولية سياسية مباشرة، لأنه الجهة الوصية على القطاع، وبالتالي ينبغي عليه أن يوضح للرأي العام ما إذا كانت اللجنة ما تزال تتلقى تعويضات أو تمارس اختصاصات لم تعد قانونية. فالصمت في هذا الملف لم يعد ممكنا، خصوصا وأن الوزير لجأ منذ بداية الأزمة إلى الحديث عن “إشكالات قانونية” بينما الواقع يكشف أن الأمر يتعلق بخلل مؤسساتي في جوهره.
ويكتسب هذا السؤال مشروعيته أكثر حين نضع في الاعتبار الطريقة التي أُنشئت بها اللجنة المؤقتة، بعد إقصاء لجنتين منتخبتين وتعويضهما بأعضاء ينتمون إلى جمعية واحدة، وهي خطوة أخلت بمبدأ التمثيلية، وأدخلت التنظيم الذاتي في منطق إدارة أحادية لا تستند إلى الشرعية المهنية الكاملة، وهو السياق الذي يجعل أي حديث عن احترام المؤسسات المهنية عرضة للتساؤل، لأن الممارسة داخل اللجنة، كما كشفها التسريب، تناقض تماما الصورة التي حاول البيان ترويجها.
وفي المحصلة، يكشف بيان يونس مجاهد عن أزمة أكبر من مجرد اعتذار مرتبك. فهو يعكس ذهنيات تدير المؤسسات بعد انتهاء ولايتها، وتستغل صفاتها بشكل فضفاض، وتلجأ إلى التبرير بدل تحمل المسؤولية. وما لم يتم فتح تحقيق شفاف وصريح، وتوضيح الوضع الإداري للجنة، وتحديد المسؤوليات بوضوح، سيظل التنظيم الذاتي للصحافة في المغرب عرضة لمزيد من التآكل، وستبقى الثقة بين الصحافيين وشركائهم، وعلى رأسهم هيئة المحامين، بحاجة إلى ترميم حقيقي، لا إلى بيانات شكلية.
إن القضية اليوم لم تعد قضية فيديو مسرب، بل قضية نموذج كامل في تدبير المؤسسات. واحترام مهنة المحاماة هو جزء من احترام العدالة، واحترام العدالة جزء من احترام الدولة، واحترام الدولة يبدأ من احترام القانون. ومن دون إعادة ترتيب هذه السلسلة من القيم، ستظل اللجنة المؤقتة تشتغل في منطقة رمادية، وتتحدث بصفات غير قائمة، وتصدر اعتذارات بلا قوة ولا شرعية.