فؤاد السعدي يكتب.. مكناس “المضيومة”

المستقل _ فؤاد السعدي
أو “طايح عليها الضيم” عبارة بالدارجة تعني “المهانة”. والمدينة “المضيومة” هي التي لا تحظى بتعامل ملائم، بغض النظر لحجمها المادي أو لمكانتها التاريخية أو لقيمتها الإستراتيجية، بل ولا تدخل حتى في دائرة الاهتمام الجدي للمسؤولين الجهويين أو الحكوميين رغم أنها كانت في يوم من الأيام مركزا استراتيجيا للدولة العلوية ومهد قوتها. وعندما نتكلم هنا على مدينة مكناس لا نتكلم من باب المبالغة أو الغلو، أو من باب حسد المدن المحظوظة والمنعم عليها التي استفادت بسخاء من جود الدولة، “الله يزيدها” واللهم لا حسد، لكن من منطلق الغيرة الوطنية الصادقة النابعة من رغبتنا في تحقيق عدالة مجالية بين كل المدن المغربية بلا استثناء، ورفضنا رؤية مغرب بوجهين، مغرب نافع ومغرب غير نافع يعاني الغبن والتهميش والنسيان والتنمر.
لقد أصبح جليا اليوم أن مدينة مكناس من المدن التي أهانها التقطيع الجهوي الجديد وحولها إلى تجمع سكني فاقد لأي عناية وأي “عطف” استراتيجي وطني، وأصبحت مجرد مقاطعة تابعة لعاصمة الجهة بعد أن أفقدوها هويتها. ماذا تساوي اليوم مكناس في اهتمامات فاس؟ كيف لمدن ضخمة بحاجيات عملاقة أن تُمسخ إلى مجرد أقاليم هامشية قصيرة اليد لا قيمة لها؟ ألا يعني هذا فهما مغلوطا للجهوية؟ وإذا كانت عاصمة الجهة عشواء لا ترى أبعد من أنفها، من ينصف باقي مدن الجهة؟
لقد أصبح مؤكدا بعد مرور سنوات على تنزيل التقسيم الجهوي أن الإدارة المركزية سلمت الأمور لعواصم الجهات ونفضت يديها “من صداع الرأس” وانتهى الأمر، وتركت مدنا تصارع للبقاء. لقد كشفت التجربة أن المقاربة التي تم إعتمادها في التقطيع الجهوي لم تعطي أكلها، بل الأكثر من ذلك أنها وسعت الهوة بين مركز الجهة والمدن المحيطة بها، وهو ما يجعلنا نطرح السؤال التالي، ألا يمكن خلق وضع إداري جديد لهذه المدن بحيث ترصد لها مخصصات من المركز بدل ميزانية هزيلة تشبه الى حد ما “الصدقة” وأعمال الإحسان؟ هل التقطيع الجهوي مجرد مزاج خرائطي تم فرضه هكذا دون قراءة الأرض والناس والنقائص من أجل البحث عن البدائل؟ هل يكون هذا التقطيع نموذجا يكتسي صبغة المقدس الذي لا يأتيه الباطل من أي جهة؟ هل كانت الغاية من التقطيع تنمية مراكز الجهة فقط على حساب باقي المدن؟ أسئلة وأخرى حارقة تستدعي الإجابة بل الوقوف على مكامن الخلل لأن واقع حال المدن الهامشية لا يبعث على التفائل خصوصا والفوارق المجالية بين مراكز الجهات وباقي المدن يتسع بشكل صارخ وفاضح.
صحيح أنه عندما تم اعتماد فكرة الجهوية في بادئ الأمر كنا نحلم بأن يتحول المغرب إلى جهات مستقلة متنافسة وفق النمودج الإسباني، غير أننا استفقنا من الحلم على كابوس مرعب وحقيقة ثابتة وهي أن النظام الجهوي ليس بالنظام البسيط الذي من السهل تحقيقه وجني ثمار تنزيله، بل معقد للغاية ويحتاج إلى مراقبة ومواكبة لسنوات معينة حتى تفضي إلى استقلال الجهات بنفسها بعد أن تتجاوز ديكتاتورية المركز.
واقع حال العاصمة الاسماعيلية اليوم لا يبشر بخير، فالمشاريع التي تبنتها المدينة على قلتها ظل بعضها متعثرا، فيما لازالت بعض المشاريع حبيسة الأوراق. مشاريع تم ترحيها وملتقيات ومهرجانات تم تهجيرها الى مدن أخرى من دون سبب كأن الغاية هو السعي لسلب المدينة ما تبقى لديها من مظاهر التمدن والتحضر، فأين أبناء مكناس البررة؟ أين أعيانها وسياسيوها ومثقفوها واعلاميوها ومنتخبوها وفنانوها ورياضيوها؟ أين كل هؤلاء من المؤامرة التي تحاك لطمس هوية المدينة السلطانية والقضاء على ما تبقى من شموخها وعزتها وكبريائها؟
لقد أخلف قطار تنمية مكناس موعده، لأن مقصورة معطوبة والقيادة أصابها الوهن والضعف، جراء تداعيات أزمات عدة أبرزها أزمة ضمير. فما نعيشه اليوم سواء داخل المجلس الجماعي أو المجلس الإقليمي أو الجهوي هو نتاج رداءة المشهد السياسي بصفة عامة، وتدني مستوى الممارسة السياسية وغياب نخب قادرة على إعطاء رؤية واضحة للأزمة، وتقديم ايجابات شافية حول سؤال الفعل التنموي بالمدينة، والذي تتحمل المسؤولية فيه الأحزاب السياسية المشكلة للاغلبية وغياب الاحساس بروح المسؤولية لدى ممثليها.
فعندما تكون الحاجة ملحة، والحلول الجذرية معلومة وممكنة، والجماعة تستنكف عن الحل، فاعلم أنَّ الأمر يتعلق بتنمية التخلف، وهذا ما تعاني منه بالضبط مدينة مكناس. فالمجلس الجماعي الذي لا يمتلك حلا جذريا لمشكلة بنيوية مصيرية ولا يطبقه هو مجلس فاشل وبدون جدوى، أو مجلس ذو إرادة مسلوبة، أو كلاهما معا، وبالتالي يجب على أعضاءه أن يُظهروا القليل من الكرامة والنخوة ويعلنوا رحيلهم، وعلى الأحزاب المشكلة للاغلبية أيضا أن تتراجع عن دعمها للعبث وتتقي الله في مكناس وأهلها فهم لا يستحقون كل هذه الإهانات، وأن يعوا أن ما وصلت إليه مكناس لم يكن صدفة أو قدرا محتوما، بل كان تخطيطا مدروسا بعناية وأن دورهم في هذا المخطط لا يقتصر على كونهم كانوا مجرد أدوات لا أقل ولا أكثر… يتبع.