حين جلس رئيس الحكومة على العلم.. سقطة رمزية في لحظة الانتصار الدبلوماسي

في لحظة وطنية استثنائية يعيشها المغرب، عقب القرار التاريخي لمجلس الأمن الداعم لمبادرة الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، خرجت فيديو أربك الرأي العام وأثار استغراب المتابعين يوثق لرئيس الحكومة، عزيز أخنوش، وهو يطوي العلم الوطني ثم يجلس عليه أثناء لقاء حزبي بمدينة بني ملال، قد يبدو المشهد بسيطا في ظاهره، لكنه ثقيل في رمزيته، مؤلم في وقعه، وصادم في توقيته.

فالعلم الوطني ليس مجرد راية تزين المقرات والمناسبات، بل هو رمز سيادي مقدس، تختزل فيه الأمة تاريخها وتضحيات أبنائها وكرامتها الجماعية، هو شاهد على وحدة الأرض والدم والمصير، وبالتالي حين يتم مسه، ولو عرضا، فإن ذلك يوقظ في النفوس حساسية وطنية عالية، لهذا كان رد فعل المغاربة طبيعيا، لأن الحدث مس ما هو أعمق من الشكل، مس المعنى الذي يرمز إليه العلم ذاته.

قد يقول البعض إن ما حدث خطأ بروتوكوليا غير مقصود، وأن رئيس الحكومة لم يتعمد المس بالرمز الوطني، غير أن المسألة تتجاوز النية إلى الوعي بالمقام والمسؤولية. فالمسؤول العمومي، مهما كان موقعه، مطالب بأن يكون أكثر حرصا على الرمزية التي تحيط بالأفعال قبل الأقوال، وبالتالي كل حركة أو تصرف في حضوره الرسمي تحمل معنى، وتتم قرائتها في ضوء الموقع الذي يشغله.

والسؤال الذي يفرض نفسه هنا هو كيف لرئيس حكومة يمثل الدولة أن يقدم، ولو من غير قصد، على فعل يمكن أن يفهم منه امتهان للعلم الوطني؟
والأمر هنا لا يتعلق بتصيد أو مزايدة سياسية، بل بأخلاقيات رمزية يفترض أن بتم تدريسها وترسيخها لدى كل من يشغل موقعا عموميا رفيعا.

فاللحظة التي حدث فيها هذا التصرف تضاعف من خطورته الرمزية خصوصا وأن المغرب يعيش اليوم ذروة الاعتراف الدولي بعد صدور قرار مجلس الأمن، الذي كرس مبادرة الحكم الذاتي كمرجعية واقعية لحل النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية. ففي هذا السياق التاريخي، كان المنتظر من رئيس الحكومة أن يجسد أعلى درجات الوعي الرمزي والمسؤولية الوطنية، لا أن يمنح خصوم البلاد لقطة عابرة قد يتم استغلالها في غير موضعها.

إن التعامل مع الرموز الوطنية لا يقاس بحجم الخطأ بل بطبيعة الرمز نفسه، فالعلم هو أكثر من مجرد قطعة قماش؛ هو ترجمة حية لسيادة الوطن واستمراريته، وخلف كل خيط من خيوطه تاريخ من التضحيات والدماء، لذلك فإن الجلوس عليه، أو طيه دون مراعاة، لا يمكن أن يرى بعين التساهل أو اللامبالاة.

الحدث يكشف، في العمق، عن حاجة ملحة لإعادة بناء الوعي الرمزي داخل مؤسسات الدولة والأحزاب السياسية، على اعتبار أن التنشئة على احترام الرموز الوطنية ليست مسألة شكلية أو بروتوكولية، بل هي جزء من الهوية السياسية والأخلاقية للدولة، وبالتالي القيادة، أيا كانت، مطالبة بأن تجسد هذه القيم في سلوكها اليومي قبل أن تطلبها من المواطنين.

لا أحد يشكك في وطنية رئيس الحكومة، ولا في التزامه بقضايا الوطن، لكن الخطأ حين يصدر من القمة يحتاج إلى تصحيح علني واعتذار صريح، لأن احترام الرموز لا يدار بالنية، بل بالموقف الواضح الذي يقطع الطريق على كل تأويل.

فمن يجلس على العلم، ولو سهوا، عليه أن يقوم ليعيد رفعه، لا دفاعا عن نفسه، بل احتراما لوطن كامل يقف خلف تلك الألوان التي ترمز للحياة، والنقاء، والدم الذي فدى هذه الأرض.

لأن السكوت في مثل هذه الحالات لا يخدم أحدا، على اعتبار أن المغاربة، بوعيهم العميق ورصيدهم التاريخي، لا ينتظرون العقاب أو الإدانة، بل ينتظرون المسؤولية الأخلاقية التي تقول إن الخطأ لا يبرر، وإن الكرامة الوطنية أكبر من أي موقع سياسي.

وبالتالي فهيبة الرموز من هيبة الدولة، ومن يترأس الحكومة عليه أن يدرك أن صورة واحدة قادرة على أن تحدث شرخا رمزيا لا يرمم بسهولة، ولذلك، فالتوضيح والاعتذار ليسا ضعفا، بل قوة في الموقف وشجاعة في تحمل المسؤولية.

لقد علمنا التاريخ أن الأوطان تبنى بالوعي قبل الإنجاز، وبالرموز قبل السياسات، والعلم المغربي، الذي رفع عاليا في المسيرة الخضراء، لا يطوى تحت الجسد، بل يرفع فوق القلوب والجباه على اعتبار أنه عنوان السيادة، ومظلة الوحدة، ولون الدم الذي كتب اسم المغرب في خرائط العالم بمداد العزة والكرامة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *