كيف أنفقت الحكومة مئات الملايين لإنقاذ الصحافة.. فانتهت إلى تعميق أزمتها وإغراقها في التبعية

بقلم | هيئة تحرير المستقل

الثلاثاء 14 أكتوبر 2025 – 01:02

منذ سنوات، والحكومة ترفع شعار دعم الصحافة الوطنية باعتبارها ركيزة من ركائز الديمقراطية وحرية التعبير، غير أن الأرقام التي كشفها المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي مؤخراً تبرهن على أن هذه المقاربة انتهت إلى نتيجة معاكسة تماماً لما رُوّج لها. فبدلاً من أن تقوّي المقاولة الصحفية وتمنحها مناعة اقتصادية، كرّست تبعية مالية خانقة جعلت القطاع يعيش على الإعانات العمومية دون أن ينجح في بناء نموذج اقتصادي مستدام.

خلال السنوات الأربع الماضية تضاعف حجم الدعم العمومي للصحافة، إذ انتقل من 164 مليون درهم سنة 2020 إلى 325 مليون درهم سنة 2024. غير أن هذه القفزة المالية لم تترجم إلى تحسن في الأداء أو جودة المحتوى، بل أصبحت حصة الدعم تفوق نصف رقم معاملات القطاع، وهو ما يجعل الصحافة الوطنية أكثر هشاشة من أي وقت مضى، ليتحول بذلك الدعم من وسيلة لمواكبة التحول إلى آلية للإعالة الدائمة، مع استمرار المؤسسات الإعلامية في غرفة الإنعاش بدل أن تدفعها نحو المنافسة والإبداع.

المعضلة الكبرى لا تكمن في الدعم بحد ذاته، بل في الطريقة التي يدبر بها. وأن المعايير الحالية تميل إلى مكافأة المقاولات الكبرى التي تشغل عددا أكبر من المستخدمين، من دون اعتبار لجودة المنتوج أو مدى تأثير الصحيفة في الرأي العام أو قدرتها على التجديد والابتكار. وبهذا ظلت نفس المؤسسات القديمة تتقاسم الكعكة العمومية، بينما تترك المقاولات الصغيرة والمبتكرة على الهامش، رغم أنها تمثل الأمل الحقيقي في تجديد المشهد الإعلامي ومواكبة التحول الرقمي.

إضافة إلى ذلك، فإن غياب الشفافية في نشر لوائح المستفيدين ومبالغ الدعم يثير أسئلة مشروعة حول مدى نزاهة هذه المنظومة، ويضعف ثقة المهنيين والرأي العام في جدية الإصلاح المعلن. فحين يتم انفاق ملايين الدراهم دون أن يعرف المواطن أين تذهب وكيف يتم صرفها، يصبح الدعم أقرب إلى منحة سياسية منه إلى أداة لتقوية الديمقراطية الإعلامية.

أما الصحافيون أنفسهم، فهم الحلقة الأضعف في هذه المعادلة، حيث لا يتجاوز متوسط الأجور  9900 درهم، وأكثر من نصف الصحافيين يتقاضون أقل من 7000 درهم، في وقت تتراجع فيه فرص الاستقرار المهني وتتقلص آفاق التطور داخل المؤسسات. هذا الوضع جعل المهنة تفقد جاذبيتها حتى داخل معاهد الإعلام، حيث يفضل الطلبة الاتجاه نحو تخصصات التواصل والعلاقات العامة، بحثا عن أفق اقتصادي أكثر أمانا.

اليوم تصر الحكومة على أنها تعمل على إعداد آلية جديدة للدعم تقوم على اتفاقيات شراكة بدل أداء الأجور مباشرة، لكن ما لم تربط هذه الآلية بنتائج قابلة للقياس وبمعايير شفافة وموضوعية، فإنها لن تكون سوى نسخة منقحة من فشل سابق، وأن الإصلاح الحقيقي يبدأ حين يتحول الدعم من منحة اجتماعية إلى استثمار في الجودة والمهنية، وحين يعاد تعريف العلاقة بين الدولة والمقاولة الإعلامية على أساس الاستقلالية والمساءلة لا التبعية والامتنان.

لقد تم انفاق مئات الملايين من الدراهم تحت شعار “إنقاذ الصحافة”، لكن ما تم إنقاذه فعليا هو الهياكل لا الرسالة. اليوم الصحافة لا تحتاج إلى صدقة مالية، بل إلى مشروع وطني يحررها من التبعية ويعيد لها دورها كسلطة رابعة حقيقية، تراقب وتنير وتسائل، لا أن تساق بدعم يغطي العجز لكنه يطفئ الروح.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *