فؤاد السعدي يكتب.. الملك يخاطب جيل الغضب

لم يكن خطاب الملك محمد السادس أمام البرلمان في افتتاح السنة التشريعية الجديدة حدثا عاديا في تقويم السياسة المغربية، بل كان لحظة مكثفة بالدلالات في الشكل والمضمون معا، خصوصا والمغرب يعيش ظرفا حساسا يتقاطع فيه الاحتقان الاجتماعي الذي أفرزته احتجاجات جيل زد مع حاجة الدولة إلى إعادة الثقة في المؤسسات. جاء الخطاب ليوازن بين هذين البعدين بدقة محسوبة تجمع بين الرسالة الهادئة والنبرة التحفيزية والإيقاع الإصلاحي الموزون.

من الناحية الشكلية حمل الخطاب بنية مدروسة، بدأت بمخاطبة البرلمان باعتباره فضاء الشرعية التمثيلية ثم امتد بعد ذلك ليشمل مختلف الفاعلين في الحياة العامة. لم يكن البناء لغويا تقريريا بل اتسم بإيقاع هادئ ومتزن يزاوج بين التحفيز والتنبيه، وهو ما يعكس إرادة في تمرير رسائل عميقة دون صدام بدليل تكرار الأفعال بصيغة الجمع ليدل على الشراكة والمسؤولية الجماعية، مثل ندعو وننتظر ونعتبر، وهو ما منح الخطاب بعدا تشاركيا يبتعد عن لغة الأوامر التقليدية. كما أن توظيف العبارات القرآنية في الختام لم يكن مجرد مسك للختام الروحي بل جاء لتطويق المضمون السياسي في إطار أخلاقي يؤكد أن المحاسبة ليست مجرد مبدأ دستوري بل التزام قيمي عابر للزمن.

صحيح أن الخطاب، في صيغته اللغوية، كان متوازنا بين الإقناع والتقويم على اعتبار أنه لم يوزع اللوم على جهة محددة، بل حمل المسؤولية بشكل متدرج بدأ بالحكومة ومرورا بالبرلمان ثم الأحزاب لينتهي في الأخير بالمجتمع المدني والإعلام. بذلك تم إلغاء منطق “المسؤول الوحيد” الذي يطبع الثقافة السياسية السائدة، ليؤسس لفكرة جماعية مفادها أن التنمية لا يمكن أن تكون فعلا حكوميا معزولا بل مشروعا وطنيا متكاملا. هذه الصياغة الشاملة منحت الخطاب طابعا تربويا يتجاوز الظرفية السياسية الآنية، وكأن الملك يخاطب الأجيال القادمة بقدر ما يخاطب الفاعلين الحاليين.

أما من حيث المضمون فقد جاء الخطاب امتدادا منطقيا لخطاب العرش السابق، بيد أنه أضاف إليه بعدا أكثر تحديدا من خلال ربط مفهوم المغرب الصاعد بمستوى التنمية المحلية والعدالة المجالية. فالملك لم يتحدث عن النمو بل عن التوازن، ولم يشدد على الأرقام بل على أثر السياسات في حياة الناس، وهذا تحول دلالي عميق في الخطاب الرسمي، واضعا بذلك معيار التقدم في جودة العيش داخل المناطق لا في وتيرة المشاريع الكبرى، ومعتبرا أن العدالة المجالية  هو توجه استراتيجي لا شعارا عابرا. بهذا التصور يتلاقى الخطاب الملكي ضمنيا مع مطالب جيل زد الذي خرج إلى الشارع بحثا عن العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، وإن لم يذكرها بالاسم فإن صدى حراكه كان واضحا بين السطور.

الملك تحدث عن ضرورة تغيير العقليات وترسيخ ثقافة النتائج، وهي عبارات تعكس وعيا بعمق الأزمة الإدارية التي يشتكي منها الشباب المغربي، فجيل الاحتجاج اليوم لا يطالب بخطابات بل بمردودية ملموسة، ولا يقبل بتكرار الأعذار حول بطء المشاريع. والحديث عن استعمال التكنولوجيا الرقمية واستثمارها في التنمية المحلية يشير إلى محاولة جسر الهوة بين دولة ما قبل الرقمنة وشباب يعيش داخلها بالكامل. بهذا المعنى يمكن القول إن الخطاب لم يكن مجرد توجيه مؤسساتي بل دعوة إلى تحديث ذهني قبل أن يكون تحديثا هيكليا.

إلى جانب ذلك، حمل الخطاب بعدا أخلاقيا واضحا في الدعوة إلى النزاهة واليقظة ونكران الذات، على اعتبار أن الخطاب السياسي عادة ما يستعمل مفردات اقتصادية أو تقنية، غير أن الملك اختار هذه المرة كلمات تعود إلى حقل القيم، وهو اختيار دال في سياق أزمة الثقة التي تعصف بالعلاقة بين المواطن ومؤسساته. وعندما ختم حديثه بالآية الكريمة التي تقول “فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره”، فقد نقل النقاش من مستوى السياسة إلى مستوى الضمير، مؤكدا أن المحاسبة تبدأ من الداخل قبل أن تكون حكما من الخارج. هي إذن الصيغة القرآنية لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، لكنها تتجاوز الإطار الإداري لتخاطب الوجدان الإنساني في المسؤول قبل المواطن.

ما يميز هذا الخطاب أنه حافظ على نبرته الإصلاحية دون أن ينزلق إلى اللغة الانفعالية رغم أن السياق كان مشحونا بالاحتجاجات، فالملك لم يتبن خطاب التهدئة السطحية ولم يوجه اللوم إلى الشباب، بل اكتفى بالتذكير بأن التنمية مسؤولية مشتركة، وهي صيغة تبقي الباب مفتوحا أمام المصالحة مع الجيل الجديد دون تنازل عن هيبة الدولة. كما أن الدعوة إلى التركيز على المناطق الهشة والجبال والواحات تعكس وعيا بأن الاحتجاج ليس وليد العاصمة بل نتاج هوامش طالها الإهمال لعقود، وبذلك تم تحويل الغضب الاجتماعي إلى فرصة لتصحيح المسار التنموي.

إن قراءة الخطاب في شكله ومضمونه تكشف أنه لم يكن موجها إلى البرلمان فقط، بل إلى الأمة بكل مكوناتها، بمعنى إنه خطاب إعادة تموقع، يعيد توزيع الأدوار ويطالب بمرحلة جديدة عنوانها الفعل بدل القول، والمسؤولية بدل التبرير. وبالتالي إذا كان جيل زد قد نجح في فرض قضاياه على النقاش العمومي، فإن الملك في هذا الخطاب استوعب تلك الرسائل وأعاد ترجمتها بلغة الدولة التي توازن بين الواقعية والطموح، هي إذن محاولة لربط الأجيال بخيط من الأمل والعمل المشترك، وإعادة بناء الثقة التي لا تستعاد بالشعارات بل بالنتائج.

الخلاصة وهي أن الخطاب الملكي ظهر كمرآة تعكس لحظة دقيقة في تاريخ المغرب، لحظة يلتقي فيها وعي الشباب بوعي الدولة عند نقطة مفصلية هي محاسبة الذات، بدليل أن الآية التي اختتم بها الخطاب لم تكن مجرد تزكية دينية، بل إعلانا بأن المرحلة المقبلة لن تقاس بما يقال بل بما ينجز، وأن مثقال الذرة من الخير كاف لبناء وطن صاعد، ومثقال الذرة من الإهمال كفيل بإهدار مستقبل بأكمله. هكذا اذن خاطب الملك الضمير قبل المؤسسات، وجعل من الأخلاق السياسية شرطا للتنمية، ومن العمل الجاد عنوانا لمغرب يطمح أن يصعد لا بالشعارات، بل بالفعل الصادق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *